هو عبد القادر ابن أبى صالح عبد الله بن جنكي دوست
الجيلاني نسبة إلى جيل، وهي بلاد متفرقة من وراء طبرستان، وبها ولد، ويقال لها
أيضا: جيلان وكيلان.
كانت ولادته سنة ٤٧١ هـ كما فى معظم تراجمه، وقد
توفي والده وهو صغير، فنشأ يتيما، وقضى المرحلة الأولى من حياته مع والدته حيث
ولد، فلما شب عزم على الذهاب إلى بغداد طلبا للعبم..وقد وصل إليها سنة ٤٨٨ هـ ،
وهي السنة التى ترك فيها الإمام أبو حامد الغزالي التدريس فى المدرسة النظامية فى
بغداد وآثر العزلة.
وكانت والدته قد زوّدته بأربعين دينارا يستعين بها
على معيشته.. ولكنها لم تصمد طويلا.. وما عسى أن تغني فى هذه الرحلة الطويلة.
وقد مرت عليه أيام عجاف عاش فيها فى ضنك شديد، وقد
تحدث عن بعض ذلك فقال: كنت
اقتات الخرنوب والشوك والبقل وورق الخس من جانب النهر والشط، وبلغت بي الضائقة في
غلاءٍ نزل ببغداد، إلى أن بقيت أيامًا لم آكل فيها طعامًا بل كنت أتتبع المنبوذات
أطعمها ،
فخرجت يومًا من شدة الجوع إلى الشط
لعلى أجد ورق الخس أو البقل أو غير ذلك فأتقوت به، فما ذهبت إلى موضع إلا وغيري قد
سبقني إليه، وإذا وجدت الفقراء يتزاحمون عليه فأتركه حياءً
فرجعت أمشي وسط البلد، فلا أدرك منبوذًا
إلا وقد سبقت إليه، حتى وصلت إلى مسجد بسوق الريحانيين ببغداد، وقد أجهدني الضعف،
وعجزت عن التماسك فدخلت إليه، وقعدت في جانب منه. وقد كدت أصافح الموت، إذا دخل
شاب أعجمي، ومعه خبز رصافي وشواء، وجلس يأكل، فكنت أكاد كلما رفع يده باللقمة أن أفتح
فيّ من شدة الجوع، حتى أنكرت ذلك على نفسي
وقلت
ما هذا؟
إذا التفتَ العجمي فرآني فقال بأسم الله يا أخي
فأبيت فأقسم علي فبادرت نفسي فخالفتها وأقسم أيضا فأجبته فأكلت
فأخذ يسائلني من أين أنت، وبمن تعرف؟
فقلت: أنا متفقه من جيلان فقال: وأنا من جيلان فهل تعرف شابًا جيلانيًا يسمى عبد
القادر، يعرف بأبي عبد الله الصومعي الزاهد؟ فقلت أنا هو، فاضطرب وتغيّر وجهه وقال:
والله لقد وصلت إلى بغداد ومعي بقية نفقة لي فسألت عنك فلم يرشدني أحد ونفدت نفقتي
ولي ثلاثة أيام لا أجد ثمن قوتي إلا ما كان لك معي وقد حلت لي الميتة وأخذت من
وديعتك هذا الخبز والشواء فكل طيبا فإنما هو لك وأنا ضيفك الآن بعد أن كنت ضيفي
فقلت له: وما ذاك؟ قال: أمك وجهت لكل معي
ثمانية دنانير فاشتريت منها هذا للاضطرار وانا معتذر إليك
فسكنته
وطيبت نفسه ودفعت إليه باقي الطعام وشيئا من الذهب فقبله وانصرف
ويبدو أن والدته كانت ترسل له بعض
النقود بين جين وآخر، فبعضها يصل إليه، وبعضها لايصل، فبغداد مدينة كبيرة وهو لم
يكن قد عرف بعد.
حياته العلمية:
بدأ الشيخ حياته العلمية
بعد وصوله إلى بغداد سنة ٤٨٨ هـ ، وبغداد يومئذ من أعظم مراكز العلم فى ديار
الإسلام، وكان فيها الصفوة من العلماء فى كل فن
وأخذ يسأل عن مدارس الفقهاء
وحلقات المحدثين.. وكان يقضي وقته متعلمًا فى حلقات العلم..
واستمرت حياة التلقي عنده
مايزيد عن ثلاثين عامًا، أتقن فيها كثيرًا من العلوم والفنون ..بما فى ذلك علم
السلوك والتصوف..
وقال ابن رجب في ذيل طبقات
الحنابلة :
كان يتكلم في ثلاثة عشر علمًا، كانوا يقرؤون عليه درسًا في التفسير، ودرسًا في
الحديث، ودرسًا في المذهب، وكان يفتي على مذهبي الإمام الشافعي والإمام أحمد بن
حنبل–رحمهما الله- ودرسًا
فى الخلاف، ودرسًا في الأصول و في النحو، وكان يقرأ القرآن بالقراءات بعد الظهر[[1]]
وكان يحضر دروسه كبار
العلماء، وتوجد فى درسه مئات المحابر، الأمر الذى يذكرنا بدروس الإمام الغزالي.
وإن سعة علمه كانت من البواعث الرئيسة لكبار العلماء على حضور دروسه
قال الحافظ أبو العباس أحمد
البندنيجي : حضرت أنا والشيخ جمال الدين ابن الجوزي رحمه الله تعالى مجلس سيدنا
الشيخ عبد القادر رحمة الله عليه .. فقرأ
القارئ آية، فذكر الشيخ فى تفسيرها وجها .. فقلت للشيخ جمال الدين : تعلم
هذا الوجه؟ قال : نعم . ثمّ ذكر وجها آخر ، فقلت له : أتعلم هذا الوجه ؟ قال :
نعم. فذكر فيها الشيخ أحد عشر وجها، وأنا
أقول له: أتعلم هذا الوجه ؟ وهو يقول:
نعم.
ثم ذكر الشيخ فيها وجها آخر
. فقلت له : أتعلم هذا الوجه ؟ قال : لا.
حتى ذكر فيها كمال الأربعين وجها، يعزو كل وجه إلى قائله، والشيخ جمال
الدين يقول : لا أعرف هذا الوجه، واشتد عجبه من سعة علم الشيخ رضي الله عنه. [[2]]
يقول الإمام النووى رحمه
الله تعالى: كان الشيخ عبد القادر ...شيخ السادة الشافعية والسادة الحنابلة
ببغداد، وانتهت إليه رياسة العلم فى وقته ...وتتلمذ له خلق لايحصون عددًا...وانعقد
عليه إجماع المشايخ والعلماء رضي الله عنهم بالتبجيل والإعظام والرجوع إلى قوله،
والمصير إلى حكمه... [[3]]
ومما يدل على مكانته
العلمية، ما نقله ابنه الشيخ عبد الرزاق حيث قال: جاءت فتوى من بلاد العجم إلى
بغداد بعد أن عرضت على علماء العراق، فلم يظهر لأحد منهم فيها جواب شاف. وصورتها:
مايقول السادة العلماء فى
رجل حلف بالطلاق الثلاث أنه لابد له أن يعبد الله عزّ وجلّ عبادة ينفرد بها دون
جميع الناس فى وقت تلبسه بها، فما يفعل من العبادات، أفتونا مأجورين.
فأتي بها إلى والدي فكتب
على الفور: يأتي مكة المكرمة ويُخلى له المطاف ويطوف أسبوعًا ( أي سبعة أشواط)
وتنحل يمينه
فما بات المستفتي ببغداد
تلك الليلة وتوجه إلى مكة شرفها الله [[4]]
مجالس وعظه وتدريسه:
كان شيخه القاضي أبو سعيد
المخرمي الحنبلي قد بنى لنفسه مدرسة بباب الأزج فى بغداد، وكان يدرس فيها الفقه
على المذهب الحنبلي. وقد انقطع إليه الشيخ عبد القادر فى سنوات دراسته الأخيرة من
سنة (٥٢١ هـ ) وكان يساعد شيخه فى التدريس إلى أن توفي الشيخ رحمه الله.
ولما توفى الشيخ أبو سعيد
لم يجد تلاميذه أفضل من الشيخ عبد القادر يفوضون مدرسته إليه، فجلس فيها للتدريس
والفتوى والوعظ والإرشاد، ولكنها ضاقت بالناس فخرج إلى المصلى، خارج سور بغداد
ليلقي دروسه هناك.
ثم اشترى أهل الخير مدرسة
المخرمي من ورثته ووسعوها وبنوها من جديد على شكل مدرسة للعلم، ورباط للمريدين
والتلاميذ، وصارت تدعى بمدرسة الشيخ عبد القادر الجيلاني، وهي لاتزال موجودة حتى
الآن فى بغداد، وتدعى المدرسة القادرية[[5]]
وقد اشتهر الشيخ بمجالس
وعظه التى كان يقصدها الآلاف، وقد كان له التأثير الكبير فى إصلاح المجتمع، فقد
أسلم على يده أكثر من خمسة آلاف، وتاب على يده أكثر من عشرين ألفا. [[6]]
وكان للشيخ نوعان من
الدروس:
دروس منتظمة تتناول شتى
فنون المعرفة إضافة إلى التربية الروحية المنتظمة ، وهو ما كان يقوم به فى المدرسة
المذكورة .
ودروس الوعظ والدعوة
للجماهير، وكان يلقيها فى ثلاثة أوقات بانتظام: صباح يوم الجمعة، ومساء يوم
الثلاثاء، ومكان ذلك فى المدرسة المذكورة، وصباح يوم الأحد فى الرباط.
بدأت دروسه بالرجلين
والثلاثة، ثم تكاثر الناس وتزاحموا فى درسه، حتى اضطره ذلك إلى الخروج من المدرسة،
وإلقاء درسه بالرباط بجانب سور بغداد.
وتقول بعض الروايات: إن
مجلسه كان يضم سبعين ألفا، وهذه الرواية وإن كانت لاتخلو من مبالغة فإنها تدل على
كثرة القاصدين لدرس الشيخ.
وقد يسأل سائل: لماذا اتجه
الشيخ إلى الوعظ، حتى اشتهر به وعرف؟
إن دراسة عصر الشيخ يمكن أن
تعطي الجواب على هذا السؤال ...
فقد كثر فى زمنه الفقهاء
والعلماء الذين يلقون دروسهم المتخصصة على طلابها، ولم تكن بغداد يومئذ ينقصها هذا
الصنف... وقد كثر الفساد فى المجتمع واتسعت دائرته، فكان عامة الناس بحاجة إلى من
يأخذ بأيديهم ويردهم إلى دائرة الشريعة، ويعلمهم ماهم بحاجة إليه...وهي القضية
التى تنبّه إليها الشيخ، ورآها وقد احتلت الدرجة الأولى فى سلم الأولويات فكانت
دروس وعظه تلبية لحاجة ملحة.
يقول الشيخ أبو الحسن
الندوي فى وصف الشيخ ووصف مجلسه:
كان صاحب نفس زكية، وهمة
قوية مؤثرة، وعلى جانب عظيم من الزهد والقناعة والعزوف عن الشهوات،
يجد ضعاف الإيمان فى مجالسه
قوة اليقين وحرارة الإيمان. ويجد أهل الشك والارتياب السكينة والإذعان.
ويجد أصحاب النفوس القلقة
والقلوب الجريحة المنكسرة : الهدوء والعزاء والسلوان،
ويجد هواة الحقائق والمعارف
وأصحاب الدراسات: العلوم الدقيقة، والنكت اللطيفة.
ويجد أصحاب البطالة
والعطلة، وأصحاب القلوب الخامدة ما يملؤهم حماسة وإيمانا، وما يحفزهم إلى العمل
والجهاد.
ويجد عباد الملذات
والشهوات، والمترفون فى الحياة، الذين تجرؤوا على المعاصى والمحارم: مايبعث فيهم
الإقلاع والندامة والتوبة والإنابة.
وبالجملة : يجد كل أحد فى
مجالسه : غناءه ودواءه وغذاءه وشفاءه ويقف كمنارة عالية من الإيمان والعلم فى بحر
الظلمات والجاهلية يأوي إليها الغرقى ويهتدي
بها الحائرون...
[[7]]
هذا النوع من الدروس، الذي يلبي حاجة كل طالب، هو ما يفسر لنا
كثرة القاصدين له حتى بلغ عشرات الآلاف.
على أن الشيخ- مع ذلك- لم
يترك دروس العلم فى مدرسته كما رأينا، ولكنها كانت ممزوجة بالتربية الروحية
والتطبيق العملي للمعلومات .
وقد آتت هذه التربية ثمارها
فكان لتلاميذ الشيخ أثرهم الكبير فى الحياة الاجتماعية فى شتى أنحاء العالم
الإسلامي [[8]]
آثار الشيخ ومؤلفاته :
لم يكن وقت الشيخ المليء
بالتعليم والوعظ والإرشاد ليسمح له بالكتابة والتأليف ، بل ربما لم يكن حريصًا على
ذلك، فالمؤلفات الإسلامية فى كل فن تستعصي على الإحصاء ..
فلم تكن المكتبة بحاجة إلى
كتاب يضاف إليها، ولكن المجتمع الإسلامي كان بحاجة إلى داعية مصلح يقوِّم ما أصابه
من خلل واعوجاج .
وهذا ما تنبّه إليه الشيخ ،
وهو ما يفسّر قلّة ما كتبه.
وقد نُسبت إليه كتب وأوراد،
والمتفق على صحة نسبته إليه منها ثلاثة هي : الغنية والفتح الرباني و فتوح الغيب
١- أما كتاب الغنية لطالبي
طريق الحقّ فهو كتاب يذكِّرنا بكتاب إحياء علوم الدين للإمام أبى حامد محمّد
الغزالي، ولا شك بأن الشيخ كان متأثرًا به موضوعًا وأسلوبًا، حيث جمع فيه بين
الفقه والأخلاق وقواعد السلوك.
فقد تحدث أولًا عن العبادات،
ثم فصّل القول فى ذكر الآداب الإسلامية، ثم تحدث عن آداب الدعاء، وفضائل الأيام
والشهور، ثمّ حثّ على النوافل ثم بيّن آداب المريدين والمجاهدين، والتوكل وحسن
الخلق.
٢- وأما كتاب الفتح الرباني
والفيض الرحماني فهو عبارة عن دروس فى الوعظ كان يلقيها الشيخ، فجمعت كل مجلس على
انفراد، حيث بلغت (٦٢) مجلسا، كان المجلس الأول منها فى ٣ شوال سنة ٥٤٥ هـ ، والمجلس الأخير فى يوم الجمعة سلخ رجب سنة ٥٤٦ هـ وفى آخر الكتاب قرابة ( ٩٠ صفحة)
جاءت على نمط ما جاء فى تلك المجالس وبعضها أجوبة على أسئلة.
٣- وأما كتاب فتوح الغيب فهو يتألف من (٧٨) مقالة فى
السلوك والأخلاق وغير ذلك، وهو شبيه في موضوعاته وأسلوبه بكتاب الفتح الرباني ويقع
في ٢١٢ صفحة، وينتهي الكتاب عند الصفحة (١٢٩) وألحقت به بعد ذلك قصائد نسبت إلى
الشيخ فيها انحراف وضلال وشرك بعض الأحيان، ولا يشك أحد فى عدم صحة نسبتها إلى
الشيخ ، وذلك لأن شيخ الإسلام ابن تيمية قد أثنى على الكتاب، ولم يكن ليفعل وفيه
هذه القصائد، الأمر الذى يؤكد عدم وجودها فى الأصل كما يقول الدكتور سعيد بن مسفر
القحطاني فى كتابه الشيخ عبد القادر الجيلاني .
وفاة الشيخ:
توفي الشيخ بعد مرض قصير، لم يطل، حتى قيل إنه دام
يومًا وليلةً ، وكان ذلك ليلة السبت عاشر ربيع الآخر، سنة ٥٦١ هـ
وكانت مدة حياته تسعين عامًا، قضاها بالعمل الخيرِ
وتعليمِ النَّاسِ وإرشادهم رحمه الله
وقبل وفاته سأله ابنه عبد الوهاب الوصية، فقال له:
عليك بتقوى الله عزّ وجلّ وطاعته، ولاتخف أحدًا سوى الله، ولا ترج أحدًا سوى الله،
وَكِلِ الحوائج كلها إلى الله عزّ وجلّ، واطلبها جميعها منه، ولا تشق بأحد سوى
الله عزّ وجلّ، ولا تعتمد إلا عليه سبحانه. وعليك بالتوحيد، التوحيد، التوحيد،
جماع الكل التوحيد.
وقال ولده موسى : لما أتته سكرة الموت كان يقول: استعنت
بلا إله إلا لله الحيُّ القيُّوم الذي لا يموت ولا يخشى الموت، سبحان من تعزز
بالقدرة، وتفرد بالبقاء، وقهر العباد بالموت، لا اله إلا الله محمد رسول الله.
الله. الله. الله ثم خرجت روحة الكريمة رضوان الله عليه
Tidak ada komentar:
Posting Komentar